الشرق الأوسط .... عجوز يحمل تاريخه على ظهره ... فتراه مترهلاً متخلفاً مليئاً بجراح الماضي و تجاعيده ، منكوباً بضغائن الموروث و أحقاده و تشققاته ...
و لا يعود الشرق الأوسط إلى شبابه و عافيته إلا إذا ألقى التاريخ بكل محتواه الدموي من على ظهره ....
فتاريخنا بلاء يجب أن نتخلص منه حتى نرى نور الحضارة و الدولة المدنية التعددية ....
و لا يتم التخلص من التاريخ بتمزيق كتبه و عدم الاطلاع عليها ... بل يتم ذلك بتغيير طريقة قراءتنا للتاريخ و تعاطينا معه ...
فطالما أن طريقة قراءتنا للتاريخ عاطفية مؤدلجة فسيبقى تاريخنا مزروعاً في حاضرناً أطناناً من الشوك و الدم و الألم و الطائفية و العرقية .... و ستبقى عندها شخصيات التاريخ المقدسة عبارة عن أشباح تخرج من الكتب الصفراء لتصبغ واقعنا صفرةً و دماً و تخلفاً و حروباً ...
أما لو تحلّينا بالقراءة العلمية المجردة لأحداث التاريخ ، فعندها فقط سنتعلم منه و نعزل شروره عن واقعنا.... و سنحبس أشباحه ضمن صفحات كتبه الصفراء.... فنستفيد من الدروس و العِبَر و لا نتقمص الأحداث و الشخصيات.
في الحقيقة لن نستطيع التعلم من التاريخ مادمنا نقرأه بعاطفية و تحيز و تقمص لشخصياته التي مضت .... بل نتعلم من التاريخ عندما نقرأه بعلمانيّة حيادية تسمح لنا بمحاكمة جميع شخصياته بشفافية و عقلانية دون استثناء ، و ذلك مهما أحيطت هذه الشخصيات بهالة من القداسة و الممنوع ...
الوردة ملاكٌ لجأ الجمال إلى عينيه تَورُّقاً و شذى ...
و أتعبه زُمرُّداً ...
ثمّ أبكاه ندى ....
و عند القَطفَة الأولى ....
طارده الذبول ...
فاندسَّ في قلمي صدراً حنوناً أبداً ....
عطراً سرمديّاً
و كفناً مُلتَحَداً ....
فمتنا معاً ...
ليضيع صوتُ الورد
في رَجعِ الصدى
مأساة الطفل السوري وسيم زَكُّور
( القصة بعيدة عن التوجهات السياسية التي تعصف بسوريا .....)
من رحم الحرب ، و في عز أتونها ، بل من تجاويف ظلماتها و أشباح سجونها .... وُلد وسيم زكّور ... ذلك الطفل السوري الذي ساقته أقداره اللعينة ليَصلى حَارَّ الحرب و نارها ، في أحلك بقعة زمكانيّة في التاريخ البشري الحديث ...
هنا سوريا ...
هنا وحشية حرب عام 2011 التي تلتهم الجميع بما فيهم السلاح و الحجر و الشجر و المدر و البشر .... بل تكاد تتخطَّف من السماء ذلك القمر ... !
في عائلة صغيرة لا ناقة لها بهذه الحرب و لا جمل ، ثم في غفلة من زمن ساقط ... سقطت قذيفة اللؤم في دياره الصغير .... فهربت شظاياها بعائلته كلها على أجنحة من ملائكة الأبد إلى أبد الأبد ...
هناك في كبد السماء حيث نامت العائلة نومة السرمد تاركة وراءها طفلاً كالوردة في عراء الحرب .... مضغةً من لحم يتيم ما بين خطابات القذائف و هتافات الرصاص و مراسلات الصواريخ .... بقيَّةَ روحٍ من ماء و دم و دمع تتناهشها ضوضاء الألم و سكاكين الرصاص ...
رغم أنه كان اللون الوحيد بين حوارات الأسلحة تلك ... و الوميض الوحيد بين أشباح العتمة هناك .... إلا أن ذلك لم يكن ليشفع له عند زعماء الحرب و لصوص الأرواح !!!
ها هو و قد استفاق وحيداً ما بين ميمنة من دم و ميسرة من هدم ...
يصرخ أبي ...
يصرخ أمي ...
يصرخ إخوتي ...
فلا أحد يرد ...
لا أحد ... لا أحد
اللهم إلا مارجاً من نار يتلوّى التهاباً في زوايا المكان و هدير رصاص يزمجر احتراقاً بدقائق الزمان ...
يصرخ بالآه و الأوّاه .... فلا يجيبه إلا أزيز الجوع و صرير البرد و عويل الجروح ... و ذكرى البابا و الماما ... اللذان اختفيا إلى الأبد ... !
لم يجد من آثار لحوم أهله المشوية تحت نار القذيفة إلا كيس ( زبالة) أسود من الحجم الكبير ... و حذاءاً لأبيه يكبر قدمه الصغيرة بعدة مقاسات .... كانا ميراثه الضخم و تركته المترفة من بقايا حطام بيت أبيه.
و بعد أيام من براثن الوحدة و سكاكين الخوف عضّه الجوع بقوة ... و لاحقته أنياب الدخان تخلب غضاضته ... فأنزل قدمه الصغيرة _ التي تكبر جباه زعماء العالم عدة مرات_ في حذاء أبيه ليداري به جلد أسفل قدميه الطري الذي لم يكد يتخلق بعد ... !
ثم مشى بين الركام و صوت اصطكاك حذائه بالأرض يلعن الإنسانية جيئة و ذهاباً .... ها هو يبحث عن أبيه و أمه و ذكريات إخوته .... فلم يجد من لحومهم إلا روائح شوائها ... و من ذكرياتهم إلا ذكرياتها ....
و عندما يئس منه قدره ... استسلم وسيم لبراءته و أذعن لوداعة طفولته فاستجاب لجوعه و انطلق يبحث عن الطعام بين نفايات المزابل قرب أطلال بيته الهدم و حَيِّه الرّدم ...
و بعد طول بحث بين المزابل حاصر الوهن عظامه الطرية ... و مزق الغبار عينيه العسليتين ، ثم خنقه العطش و جنزرته الوحدة بسلاسلها ...
و لا أحد ...
لا أحد يشعر بطفولته التي صادرها زعماء العالم بتواقيعهم على اتفاقيات النفط و الغاز و المال و السلاح ... و التي أدت إلى إلقائه و أهله خارج أسوار المدنيّة ... طعاماً لبركان الحرب التي أججتها الطائفية و الإرهاب و برك النفط و الإيديولوجيات الإقصائية التي اجتاحت سوريا من شمالها إلى جنوبها ...
ها هو يدفع الثمن .... ثمن التطرف و الجهل و إرواء (أنا) الوحوش الكاسرة التي تحكم الكوكب ... ها هو يدفع ثمن جهود مُبَشِّري الأديان و مؤسسي العرقيات و مهندسي الموزاييك الطائفي المتناحر في المنطقة ...
ها هو يُلقى على قارعة طريق الوطن .... لا كبائعة الكبريت في الأدب العالمي بل كالكبريت نفسه إذ يشتعل احتراقاً ثم يحترق اشتعالاً ....
ها هو و قد استلقى مغشياً عليه بعد أن أنهكه اليتم و الجوع ... ها هو و قد ابتلعه ظلام الغوغاء .... و افترسته غياهب الوحدة .... ظلمات بعضها فوق بعض ...
" أوقفوا الرصاص ... أريد حضن أمي ... تباً لنفطكم و أموالكم و أديانكم و طوائفكم ... أريد حليبي الذي صادرتموه من ثدي أمي ب( زعرنتكم ).... أريد دفتري الذي اجتثثتم أسطره بأسلحتكم ... أريد مقعد دراستي الذي حطمتموه بنزاعاتكم .... أريد نور عينيّ الذي أطفأتموه بتكفيركم لبعض ...
أنا لست سنياً لأموت بقذيفة شيعية ... و لست شيعياً لأموت بسيف الجهاد ... و لست برجوازيا لأموت بلغم شيوعي ... كما أنني لست ماركسياً لأموت بال f 16 الإمبريالية ...
أنا طفل و كفى ... و الصلاة على المصطفى .... !
أريد دباديبي و لعبي ... و ماما ماما يا أنغاما ... أريد صفاً و معلماً كي أثرثر لأزعجه فيأمرني بالوقوف جزاءاً لثرثرتي و مشاكستي .... أريد مدرسة كي أهرب منها لأشتري الحلوى من عند أقرب مخبز ... و أطارد القطط ما بين الحارات ...
لا تهمني الولاية إن كانت لعلي أم لأبي بكر أم لأبي لهب ... أم لماوكلي ...
و لا الخلافة إن كانت لجيفارا أم للبغدادي ... أم لشيرخان.
و لم أسمع بتوحيد الأسماء و الصفات ...
و لا الشرك الخفي .... ولا سخافات ماركس و أنجلز و هيغل ولا فتاوى ابن تيمية و لا خزعبلات بولس الرسول و لا ما جاء في التلمود ...
لم أزنِ بمحصنة حتى أستحق كل هذا الرجم ... !
أنا ما اقتربت من ينابيع نفطكم التي تقتتلون عليها في دير الزور و الرقة .... و لم أحلق لحيتي فسقاً كي يقام علي حد ابن حنبل ... إذ لا لحية لدي بعد ... و لا عانة كي أكلف ...
و لم أقتل الحسين حتى تحملوني وزر دمه ....و لا سبيت زينب .... لا مرة و لا مرتين ... !
لم أكسر صليباً لا عمداً و لا بالخطأ .... و لا أعرف كيفية قراءة القرآن حتى أُتَّهم بالطعن فيه !
كل ما أعرفه من هذه الدنيا هو عبارة عن دولة صغيرة من لعبي و ( البلاي ستيشن ) الذي اشتراه لي أبي السنة الماضية كمكافأة على حصولي على علامة 10 من 10 في الرياضيات ..... و ريمي بندلي .... نعم أعرف ريمي جيداً و أحفظ أغانيها (غسل وشك يا قمر ) (عطونا الطفولة) .....
كل ما أعرفه عن هذه الدنيا هو وطن صغير من ضحكات أهلي الذين قتلتموهم ... و طريق قصير إلى رأس حارتنا حيث أشتري لوح الشوكلاتة من عند صافي البقال ..."
و بعد أن انتهى وسيم من خطابه السابق في حضرة زعماء الكوكب اللامبالين ... نام وحيداً هادئاً جداً على رصيف من أرصفة سوريا على إثر هدنة مؤقتة مع أنياب الجوع و سكاكين البرد ....
لكن الجوع غدار ... فطعناته في الظهر لا ترحم ...
طعنه الجوع عدة طعنات في مقتله .... فمات ...
مات وسيم وسيماً على قارعة الرصيف متلحفاً كيس الزبالة ... مرتدياً حذاءه الأسود ...
حذاءه الذكرى الوحيدة التي ورثها عن أبيه ...
مات و نمرة حذائه الفضفاض تكبر عمر قدمه الصغيرة بأربعة أضعاف ... !
مات ثم تحلَّل جثمانه الطاهر على الرصيف دون أن يجد من يقدس التراب بمواراته فيه ...
مات على الرصيف و الريح تلعننا إذ تصفر بتجاويف جمجمته التي أكلها الدود فوق الأرض ...
مات و أزيز ارتجاف لحمه الطري تحت وطأة البرد يطعن كرامتنا و يحاكم وجوديتنا و يلعن واقعنا و فلاسفتنا و كهنتنا و مُنَظِّرينا و صانعي أيديولوجياتنا.
مات و جسده الصغير يصرخ و يقول ... فلتأكلني القطط و الكلاب ... أشرف لي من أن تواريني أكف جنسكم البشري الآثم ...
مات وسيم زكور و نهشت جثته الكلاب ... دون أن يدفنه أحد ...
رحل عن عالمنا و لم يترك إلا كيس زبالة من المقاس الكبير و حذاءاً أسوداً بلا نعل ولا مسامير.
#راوند_دلعو